الأربعاء، يوليو 02، 2008

فلسفة الأنوار والفكر الحديث ـ جورج بوليتزر ـ ج طرابشي

فلسفة الأنوار والفكر الحديث كانت فلسفة الأنوار ”تلك المدرسة اللامعة من الماديين الفرنسيين الذين جعلوا من القرن الثامن عشر، بالرغم من جميع الانتصارات البرية والبحرية التي أحرزها الإنجليز والألمان على الفرنسيين، قرنا فرنسيا في المقام الأول، حتى قبل أن تتوّجه تلك الثورة الفرنسية التي لا نزال نحاول، نحن الذين لم يشاركوا فيها في ألمانيا ولا في انجلترا، أن نؤقلم نتائجها“.1 هكذا كان يتكلم في عام 1892، عن مادية القرن الثامن عشر الفرنسية، انجلس الذي كان، مع ماركس، المبدع العبقري للمادية التاريخية. وقد بذلت الرجعية قصارى جهدها وكل ما بوسعها لتواري عن الأنظار الأفكار التي هيمنت على ”عصر الأنوار“. وقد أسهب أساتذتها في الشروح النظرية حول أهمية الأفكار في التاريخ بوجه عام، لكنهم واروا عن الأنظار حركة الأفكار تلك التي جعلت من القرن الثامن عشر ”قرنا فرنسيا في المقام الأول“. ويقيم حزبنا، على النقيض من ذلك، وهو يحتفل بالذكرى السنوية المئة والخمسين للثورة، وثيق الصلة بين الرجال الذين حققوها وبين ”تلك المدرسة اللامعة من الماديين الفرنسيين“ الذين مهدوا الطريق لها. يقول انجلز : ”كانت مادية القرن الثامن عشر الفلسفة الفرنسية عقيدة الثورة الفرنسية“. تمثل هذه المادية مرحلة حاسمة في ذلك التطور الذي سيفضي إلى المادية الجدلية، وعبر الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية.من واجبنا إذن أن نعرف الدور التاريخي لـ”فلسفة الأنوار“. فتكوينها وتطورها يبينان بصورة لا تقبل الجدال، على الصعيد العلمي، أننا نحن الشيوعيين ورثته الحقيقيون ومتابعوها الوحيدون بالمعنى التاريخي للكلمة.1 - إيديولوجيا العصر الوسيط :يكتب لينين في ”كارل ماركس ومذهبه“ : ”على مدى كل تاريخ أوروبا المعاصر، وعلى الأخص في نهاية القرن الثامن عشر في فرنسا، حيث كان يدور صراع فاصل ضد مخلفات العصر الوسيط المتراكمة، ضد الإقطاع في المؤسسات وفي الأفكار، كانت المادية الفلسفية الوحيدة المنطقية، الوفية لجميع مبادئ علوم الطبيعة، المناوئة للأحكام المسبقة والرياء الخ“. من الضروري، حتى نفهم فلسفة الأنوار، أن نمحص السمات الكبيرة لذلك الاقطاع في الأفكار، المعاني الكبيرة للنظام الذي وجد فيه الإقطاع تعبيره الإيديولوجي.إن الناطقين بلسان النزعة التجهيلية، الداعين إلى العودة إلى حقب متقادمة زمنيا بقدر أو بآخر من العصر الوسيط، يصورون هذا الأخير على أنه ”وحدة عقول متساوقة“. بيد أن العصر الوسيط مكوّن، هو الآخر، من تصارع ميول واتجاهات متناقضة تترجم إلى عالم الأفكار التحولات الجارية في المضمار الاجتماعي والاقتصادي. وليس مطلوبا منا، حين نتكلم عن ايديولوجيا اقطاعية، سوى أن نسلط الضوء على السمات الكبرى لذلك النظام الذي شُن ضده نضال كان لا يني ضراوة كلما اقتربنا من عصر النهضة.إن العنصر الأساسي في هذه الايدولوجيا هو الدين.وكما بيّن انجلز : ”كان المركز العالمي الكبير للنظام الإقطاعي الكنيسة الكاثوليكية الملكية. فقد كانت هذه الكنيسة توحد مجمل أوروبا الغربية الخاضعة للنظام الإقطاعي، بالرغم من جميع الحروب الأهلية، في منظومة سياسية كبرى تتصدى لأتباع الكنيسة الشرقية المنشقين وللبلدان الإسلامية سواء بسواء. وكانت تحيط المؤسسات الإقطاعية بهالة التكريس الإلهي“. كانت الكنيسة، بالفعل، تفسر المجتمع، لا الطبيعة فحسب، باللـه. وكان الايمان الديني يشد أزر الإقطاع الذي كان يشد أزر الإيمان ويمده بأسباب الحياة.من عادة التجهيليين المعاصرين أن ينتشوا وينذهلوا أمام ”قوة الإيمان الديني ففي العصر الوسيط“. وبذلك يعبرون عن أسفهم على السماء الضائعة، وعن رغبتهم في تحويل الأرض، عند الاقتضاء، إلى جحيم ليطردوا من وجدان البشر الأنوار التي تسربت إليه. ويكتفي الماديون المبتذلون وممثلو نزعة ”وضعية“ معينة أشد ابتذالا أيضا بفضح ”السذاجة البشرية“ وبالتنكيت بصدد الحبل بلا دنس.أما المادية التاريخية فتبين المنابع العميقة، المادية، للدين، والنتائج التي ينبغي استخلاصها من ذلك. يقول ماركس : ”إن أساس النقد اللاديني هو كالآتي : الانسان هو الذي يصنع الدين، والدين لا يصنع الانسان“2. إن الإنسان هو الذي خلق الآلهة، الإنسان الموجود ففي شروط حياتية محددة. والدين طريقة معينة في انعكاس العالم في وجدان الإنسان. وإذا كان، بصفته انعكاسا، انعكاسا عبثيا، فهذا لأن العالم المعكوس فيه هو نفسه عبثي.هذا العالم هو المجتمع. والإنسان فيه بائس ومضطهَد. إنه عالم لا يستطيع فيه الإنسان أن يحقق كينونته، ليس فيه لأن المجتمع ليس مصنوعا لا من أجله ولا من أجل إسعاده. إنه عالم لا يستطيع فيه الإنسان أن يحقق كينونته، وليس له، في الحقيقة، سوى الشقاء. إنه، بالفعل، ”واد من الدموع“.والإنسان بحاجة إلى الأوهام ما دام في هذه الحالة. والدين يقدمها له. فهو يحيط وادي الدموع بهالة. يحجب عن الأنظار سلاسل ”الأزهار الخيالية“. يعزي الإنسان بما يقدمه له من تحقيق وهمي لكينونته. كتب ماركس : ”البؤس الديني هو، من جهة، التعبير عن البؤس الفعلي، ومن الجهة الثانية الاحتجاج على البؤس الفعلي. الدين تـنهدة الخليقة المضطهَدة، روح عالم بلا قلب، مثلما أنه روح حضارة منفية الروح عنها. إنه أفيون الشعب“3. والأفيون، كما يقال، يخلق ”الجنة الاصطناعية“4. والدين يقدم مجانا حلم جنة خيالية يسير فيها كل شيء أحسن ما يرام.والماركسية هي في آن واحد الإلحاد الأكثر تماسكا ومنطقية وتجاوز الإلحاد المبتذل الذي يخيل إليه أن كل شيء يُسوى على الوجه المطلوب عند ”نقد السماء“. فما دام الدين انعكاسا خياليا للعالم الواقعي، فلا بد من تبيان أن الدين وهم.”نقد الدين هو أساس كل نقد“.ونظرا إلى طبيعة الدين فإن النضال ضده هو ”بصورة غير مباشرة النضال ضد هذا العالم الذي يمثل الدين عبيره الروحي“. لكن النضال غير المباشر ضد هذا العالم يجب أن يتحول، في نظر الماركسية، إلى نضال مباشر. وإذا كان الدين هو الوهم الذي يصطنعه الإنسان لنفسه في عالم يحتاج فيه إلى الأوهام، فلا يكفي فضح الوهم، وإنما ينبغي إلغاء الحاجة إلى الأوهام، وذلك لا يتم إلا بتغيير العالم. ”إن مطلب التخلي عن الأوهام هو مطلب التخلي عن حالة هي بحاجة إلى الأوهام“5. لا يستطيع النقد إذن أن يقتصر على نقد السماء ؛ وإنما ينبغي أن يتعداه. كتب ماركس : ”لقد نزع النقد الأزهار الخيالية التي كانت تحجب أغلاله، لا لكي يحمل الإنسان أغلالا عارية من كل حلم ومن كل إغراء، وإنما لكي يطرحها ويقطف الزهرة الحية. نقد الدين يجرد الإنسان من أوهامه حتى يفكر ويعمل ويصوغ واقعه الذاتي كإنسان أضاع أوهامه وبلغ سن الرشد، وذلك كي يدور حول نفسه، أي حول شمسه الواقعية“6. على هذا النحو ”يتحول نقد السماء إلى نقد للأرض“. فالنضال ضد عبثية الدين يتحول إلى نضال ضد العالم الذي يمد، بعبثيته، المعتقدات الدينية بأسباب الحياة. وعندئذ يمكننا أن نفهم، في الوقت نفسه، طبيعة نزعة معينة صاخبة معادية لرجال الدين. فلئن كان بعضهم يدعون الشغيلة بضجيج عظيم ليتأملوا بإعجاب مفاخرهم وانتصاراتهم على قوى السماء الخيالية، فهذا حتى لا تتبين العين خضوعهم لقوى الأرض الواقعية، من دون أن تستثنى منها الكنيسة بالذات. تصلب في السماء، وميونيخ على الأرض7 :هذا هو شعارهم، في حين أننا، نحن الشيوعيين، نقرن نقد السماء بنقد الأرض، ونقد الأرض بالعمل، بسعينا إلى توحيد جميع الذين لا يؤمنون وجميع الذين يؤمنون في النضال ضد عبثية هذا العالم. أما الخصوم المسعورين لسياسة اليد الممدودة فيهربون، على العكس، إلى السماء بمجرد أن ينشب عراك على الأرض.كما تفسر الكنيسة القروسطية المجتمع والدولة باللـه، كذلك تفسر باللـه علمها. فنظرياتها كافة تحيط بها ”هالة التكريس الإلهي“. وتعاليم الدين الأساسية، العقائد، موحى بها من اللـه، وهذا الوحي حجة قاهرة في تأييد صحتها. وقد أوحى اللـه، الكلي العلم، بجزء من معرفته ؛ والحقائق التي أفصح عنها لا يمكن إلا أن تكون خالدة أبدية. ولا مجال لمعرفة المزيد أو لمعرفة مغايرة فيما يتعلق بالحقائق الموحى بها. وإنما هناك مشكلة واحدة : تأويل هذه الحقائق على الوجه الصحيح، كما تعرضها النصوص المقدسة. فأسس العلم متضمنة فيها إلى أبد الآبدين. ومنهج الوصول إلى الحقيقة ليس دراسة الوقائع، وإنما دراسة النصوص.وكما أن ”الكنيسة نظمت تراتبيتها طبقا للنموذج الإقطاعي“، كذلك نظمت طبقا للنموذج الإقطاعي نفسه عالم الفكر والنشاط العلمي. فالمجتمع الإقطاعي الذي وضع الرب أسسه إلى أبد الآبدين، يناظره علم صحيح أبدا وأزلا وضع الرب أيضا أسسه.كان العصر الوسيط قد ورث عن الإغريق علمهم. وكان على معرفة جزئية به. وبفضل تأثير العرب بوجه خاص أطلع، ولو رديء الإطلاع، على مؤلفات أرسطو، أعظم علماء العهد القديم وفلاسفته. وقد تولى القديس توما تكييفها مع حاجات الكنيسة والعالم القروسطي. ومنذئذ أصبح أرسطو، في مضمار العلم، عديل التنزيل. والمنهج الأساسي في معرفة الحقيقة هو، هنا أيضا، دراسة النصوص. تأويل النصوص القديمة : هذا هو المنهج السائد في العلم القروسطي في الميادين قاطبة.لكن للعلم، كما للمجتمع، تراتيبيته. فالحواجز المنيعة التي تفصل بين الناس في المجتمع، تناظرها حواجز منيعة تفصل بينهم من وجهة نظر قيمة عملهم. وتحيط بهذه الحواجز، في كلتا الحالتين، ”هالة التكريس الإلهي“. فالرب قد خص السادة بالانتفاع من الأراضي المزروعة. كذلك هناك، في العلم، من ينتفعون بالحقيقة بفضل ”معونة خارقة من السماء“. إنهم الثقات : الكنيسة، القديس توما، أرسطو، الخ. وإذا كان طريق الوصول إلى الحقيقة شرح نصوص لها من العمر قرون عدة، فإن هذه الشروح لا يجوز أن تتم من خلال المقارنة بين النصوص والوقائع، وإنما من خلال استشارة الشراح المأذونين. هذا ما سمي بمنهج الأهلية méthode d’autorité. وهو يفضي في الممارسة إلى الحيلولة دون تطور العلم. وهكذا يتم بالضرورة إعلان تفوق العلم القديم على العلم الجديد.كان المؤلَّف الذي وضعه أرسطو في الفيزياء هو الذي يدرَّس في المعاهد، حتى القرن السابع عشر، أثناء دروس الفيزياء. وبموجب التعليمات المطبقة لدى اليسوعيين، ما كان يجوز للأستاذ أن يتنطع من تلقاء نفسه لشرحه. فقد كانت التعليمات تلزمه بشرحه بالرجوع إلى أعظم حجة في هذا الموضوع، نعني القديس توما. لكن القديس توما كان له أيضا شراحه المأذونون. هكذا كانت دراسة الفيزياء في جوهرها سلسلة من الشراح والشروح. وهذا ما يضفي على العلم القروسطي طابعه الجوهري الكتبي، الذي لم يعرفه قط العلم الارطوطاليسي في الأصل. والانتهازيون يقلدون ”منهج الأهلية“ حين يتشبثون ببعض الأطروحات التي تقادم عليها العهد من الماركسية، لا لشيء إلا لكي يكبحوا تطور العلم الماركسي والحركة الثورية للبروليتاريا.كان العلم الموروث عن الإغريق يمثل، في قلب العالم القروسطي، العنصر الدنيوي، ”النور الطبيعي“، أي العقل، بالتعارض مع النور الخارق للطبيعة، المنزل بالوحي. ولم يتوقف الاثنان عن التنازع والتصارع، لكن هذا الصراع سوّي في البداية بأن جرى إلحاق النور الطبيعي بالنور الخارق للطبيعة، الفلسفة ذات الأصل الدنيوي باللاهوت الذي كان يصور نفسه على أنه علم اللـه والأشياء المقدسة. ”الفلسفة خادمة اللاهوت“ : ذلك هو الشعار، وكان تبريره كما يلي : ما كان العقل البشري ليصل قط إلى الحقائق التي أوحي بها اللـه. ولكن لما كان اللـه لا يقول غير الحقيقة، نظرا إلى أنه كامل، فإن العقل البشري يستطيع في أحسن الأحوال أن يصل إلى بعض تلك الحقائق، وإذا وصل إلى شيء آخر فمعنى ذلك أنه قد ضل وتاه. ومهمة العقل أن يثبت ذلك على وجه التحديد وأن يكدس الأدلة في صالح اللاهوت. فالنظرية القائلة أن الشمس تدور حول الأرض الساكنة، والنظرية القائلة أن هناك اربعة عناصر، اثنان منها، الهواء والنار، يتحركان إلى الأعلى لأن فيهما طبيعة تحملهما على الارتفاع، والاثنان الآخران، الماء والتراب، يسقطان لأن فيهما طبيعة تحملهما على النزول، وقصة التكوين في ”العهد القديم“، الخ، كانت تعتبر كلها صحيحة صحة أزلية، غير قابلة للمس، مثلها مثل سر القربان المقدس. يقول انجلز : ”لم يكن العلم، حتى عصر النهضة، سوى خادم الكنيسة الوضيع. وما كان يباح له أن يتخطى الحدود التي يقررها الإيمان، ولهذا لم يكن هناك علم بالمرة“.كان العلم الرسمي يعيش على ذخيرة واحدة لا تتبدل من المعرفة، فكان يضاعف الجهود لكي يؤدي ما عليه للإيمان، وكان ينهك قواه في استدلالات عقلية لا متناهية لا دور لها، بالنظر إلى عدم وجود مضمون جديد، سوى تهذيب الشكل وتنقيته. هكذا انحطت الفلسفة الرسمية المدرَّسة في المدارس، علم الكلام، إلى شكلية عقيمة عرف موليير كيف يعمم صورتها في أوساط الشعب.لكن هذه الايدولوجيا المتحذلقة ما كانت تهيمن وحدها بلا منازع. فإلى جانبها كانت تزدهر، حتى القرن الثامن عشر، العلوم السرية : السيماء، التنجيم، السحر والشعوذة، وتسود في مجمل المجتمع الخرافات البربرية والجهل وما إلى ذلك من الغياهب التي هي خير حليف، كما سيقول الموسوعيون فيما بعد، للعبودية. هذه الغياهب والجهالات هي ما تتحسر عليه الرجعية، وليس حذلقات علم الكلام، حين تتكلم بحنين وشوق عن العصر الوسيط، كذلك فإن ما تريد الفاشية أن تلقنه للبشر بالقوة لهو ضرب من الجهالة أكثر بربرية أيضا. ومن أسباب عداء الفاشية للمسيحية أصلا أن الأخلاق المسيحية مثلت عامل تقدم بالمقارنة مع البربرية الأعتى التي وسمت بميسمها بدايات القرون الوسطى. وتنحي العنصرية النازية في الوقت نفسه على القديس توما باللائمة والتقريع لأنه أفسح للعقل مجالا أكبر مما ينبغي.ولئن لم يكن العصر الوسيط محض ليل طويل، فإن براعم التجديد العلمي التي كان ينطوي عليها لم يقيض لها النماء الحق إلا في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر. لكن عندئذ بالتحديد حدث ”البعث العظيم في العلم ؛ فقد صار الناس يدرسون من جديد علم الفلك وعلم الميكانيكا والفيزياء والتشريح والفيزيولوجيا“، و”تمرد العلم على الكنيسة“. وطفقت الايدولوجيا القروسطية تتراجع القهقري. وكانت مسيرة طويلة تكونت أثناءها رويدا رويدا الأفكار الجديدة وانبعثت المادية الفلسفية. (تابع)