ابن رشد فرصة العرب الضائعة
شاهر أحمد نصر
نص المحاضرة التي ألقيت على صالة المركز الثقافي بطرطوس بتاريخ الاثنين 17/5/2004
لمّا فرّ الفيلسوف من اليسانة إلى فاس في حوالي 1197م أمسكه أهلها ونصبوه أمام باب الجامع للبصق عليه عند الدخول والخروج.
ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس "تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها لأنّه ثبت أنّ هذا الشرح صحيح مفيد.
وكان فريدريك الثاني في إيطاليا، قد استدعى العالم ميخائيل سكوت، وعهد إليه بأن ينقل من العربية إلى اللاتينية كتب أرسطو وشروح ابن رشد عليها.. لتدرس في جامعة نابولي التي أسسها في سنة 1224 مستقلة عن الكنيسة
فمن هو "سلطان العقول" هذا، الذي نصبه بنو قومه أمام باب الجامع للبصق عليه، واهتدى الغرب بفكره وشروحه ليبنوا فلسفتهم وأسس نهضتهم عليها؟!! إنّه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد.
في سيرة ابن رشد )1(
أتت ترجمة ابن رشد في تحقيق كتاب فصل المقال.. على النحو التالي: " القاضي محمد بن أحمد بن رشد قاضي قضاة الأندلس وأشهر فلاسفة المسلمين على الإطلاق وأعظم شراح فلسفة أرسطو في العالم، نفاه أبناء عصره ومنعوا كتبه لاشتغاله بالفلسفة وعلى شروحه الفلسفية بنى الأوروبيون فلسفتهم في القرون الوسطى وكان اسمه مشهوراً عندهم شهرة أرسطو."(2) ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في قرطبة سنة 520هـ (1126 ميلادية) في بيت اشتهر بالعلم والفقه. كان جده محمد من أشهر أهل زمانه تضلعاً في الفقه وقد ولي منصب قاضي القضاة في الأندلس.
درس ابن رشد في صغره الطب والفقه والأصول وعلم الكلام، ودرس الشريعة على الطريقة الأشعرية والفقه على المذهب المالكي، إذ أن المذهب المالكي هو السائد على المغرب والأندلس..
عند الحديث عن الوسط الذي نشأ فيه الفيلسوف الأندلسي ، يمكننا القول عنه بشكل عام أنّه كان منقسماً إلى اتجاهات متنوعة ومختلفة بين مؤيد ومناهض للفلسفة، سواء من قبل الشعب أم الحكام.
فيما يخص العامة فالأكثرية الساحقة منها كانت في موقف رافض للفلسفة لأنّ من طبيعتها معاداة كل ما تجهله وما يفوق تصورها وإمكاناتها العقلية..
أما الحكام فمن المعلوم أنّه إذا كان أحدهم محباً للعلم وللشعب ومشجعاً للأعمال الفكرية، تسود المجتمع حالة من النشاط الفكري والثقافي تؤدي إلى تطور حالة الأفراد والمؤسسات تطوراً يعود بالمصلحة العامة على الجميع. أما إذا أراد الحاكم أن يستغل سلطته من أجل مصالحه الخاصة ومن أجل الاحتفاظ بالسلطة فإنّه يلجأ عادة إلى إخماد كل الحركات الفكرية التقدمية ويعادي الفلسفة والعلم ويؤلب الناس على أصحاب هذه النشاطات مستغلاً بذلك سذاجة أفكارهم وعقولهم، وهذا ما يجعلهم غافلين عن كل ما يؤدي إلى تحسين أحوالهم ومعاشهم وحياتهم الاجتماعية. وقد عايش ابن رشد جميع تلك الظروف إبان حياته...
بعد وفاة الخليفة الحكم الثاني (المستنصر بالله) ( 302-366هـ / 914-976م) انتهى الأمر إلى ابنه هشام(المؤيد بالله) ( 366-399 هـ /976-1009م) وكان فتى ضعيف الرأي، فقام عليه الحاجب محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور (393هـ /1002م) واغتصب منه السلطان. ورغبة منه في تقوية عرشه وإضعاف حزب هشام شرع في اضطهاد العلماء والمشتغلين بالفلسفة. فحاصر قرطبة عاصمة العلم والفلسفة، وداهم قصر الخلفاء فيها، وجمع منه كل الكتب الفلسفية والمنطقية والفلكية وأمر فأحرقت في ساحات قرطبة أو رميت في آبارها.
من المؤرخين من يعيد السبب في سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين في الأندلس إلى اضطهادها العلماء والفلاسفة. ولذلك قام بعد هذه الحوادث أميرٌ تبنى العلم والفلسفة، وأباح الكتب على أنواعها. إنّه الخليفة عبد المؤمن (558هـ / 1163م). الذي افتخر بلاطه بأنّه جمع أعظم فلاسفة ذلك العصر وهم ابن زُهر وابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
في عام 548 هـ (1153م) انتقل ابن رشد إلى المغرب (مراكش) وعاش فيها، بناء على تكليف الخليفة عبد المؤمن، ساعياً لإنشاء المدارس و نشر العلم. وبعد وفاة عبد المؤمن، خلفه الأمير أبو يوسف يعقوب المنصور (595هـ /1199م) الذي كان أكثر الملوك علماً في عصره، كما دون المؤرخون، فقرّب الفيلسوف ابن طفيل إليه، واغتنم ابن طفيل الفرصة وجذب إلى بلاط الأمير أشهر العلماء. وكان ابن رشد من أخص أصدقاء ابن طفيل فقربه إلى الخليفة. منذ ذلك الحين أخذ ابن رشد يزداد رفعة في بلاط الخليفة أبو يوسف وازدادت شهرته خاصة بعد موت ابن طفيل وصار في ذلك الزمان "سلطان العقول والأفكار لا رأي إلاّ رأيه ولا قول إلاّ قوله".
ومن الطبيعي أن تؤثر النكبة الكبرى التي حلت به نتيجة اضطهاد قومه له على حياته بشكل عام وصحته بشكل خاص، وأن تسبب وفاته، وبالتالي يمكن اعتباره شهيد الفلسفة العربي الأول. توفي بعد أشهر من العفو عنه سنة 595هـ ودفن في قرطبة.
نبذة عن أخلاق ابن رشد وفلسفته الأدبية :
تدل حياة ابن رشد وما خلّفه من مؤلفات على أنّ أخلاقه كانت في منتهى النزاهة.
يقول ابن رشد إنّ الإنسان غير مطلق الحرية تماماً ولا مقيدها تماماً. وذلك لأنّه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه فهو حر مطلق لأنّ نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيداً بها لما لها من تأثير على أعماله. وتتلخص فلسفته الأخلاقية باعتبار الإنسان حراً في أعماله.
كان ابن رشد شديد الحب لوطنه الأندلس.. في ذات يوم كان الفيلسوف في حضرة المنصور مع أبي بكر ابن زهر العالم المشهور وهو من أشبيلية فأخذ ابن زهر يظهر فضل أشبيلية وابن رشد يظهر فضل قرطبة فقال ابن رشد "إذا مات في أشبيلية أحد العلماء وأريد بيع كتبه فإنّها تُحمل إلى قرطبة لتباع فيها لعدم اهتمام الاشبيليين بها، وبالعكس إذا مات مغنٍ في قرطبة فإنّ آلاته تحمل إلى اشبيلية"ـ فكأنّ أبا الوليد ذكر حينئذٍ قول الشاعر الأندلسي:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن قنطرة الوادي وجامعهـا
هذان اثنتان والزهراء ثالثة والعلم أعظم شيءٍ وهو رابعها
تأثر في آرائه السياسية بفلسفة أفلاطون في "الجمهورية"، وخلاصتها، أنّه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط عادل... ومن رأي ابن رشد أنّ الحاكم الظالم هو الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل الشعب.
أما رأيه في النساء فهو منطبق مع دعاة تحرير المرأة العصريين، ويرى أنّ الاختلاف الذي بين النساء والرجال إنما هو اختلاف في الكم لا في الطبع ـ كما يقول فرح أنطون ناشر بعض أعماله ـ أي إنّ النساء طبيعتهن شبيهة بطبيعة الرجال ولكنهن أضعف منهم في الأعمال.
اضطهاد ابن رشد:
لا شك في أنّ نكبة ابن رشد، بين أهله العرب المسلمين، نجمت عن تراكم أسباب كثيرة ومختلفة، منها الذاتي ومنها الموضوعي الناجم عن خوضه في أعماق جديدة ومختلفة من بحر الوعي والعقل في مجالات العلم والفلسفة في مستويات ليست مألوفة، وتؤتي بثمار تهدد مصالح المقتاتين على ما تعطيه الشطآن الهادئة للحكام والعامة من صدقات..
ولعدم الخوض في الأسباب العميقة للخلاف مع ابن رشد، تلك الأسباب ذات البعد الفلسفي، الذي لا يقدر المتنفذون الذين يشغلون المناصب الرفيعة الخوض فيها، فقد آثروا أن يعيدوا نكبته واضطهاده إلى أسباب ذاتية تعود لبعض جوانب علاقته بالخليفة والأسرة الحاكمة؛ فيروى أنّه بعد وفاة الأمير يوسف انتهى الأمر إلى الخليفة يعقوب المنصور بالله، وكان من محبي العلم فزاد منزلة ابن رشد رفعة.. وكان ابن رشد يخاطبه: أتسمع يا أخي؟ ولذلك تألب الحاسدون الذين كان يتفوق عليهم واتفقوا على الوشاية به لدى الخليفة المنصور بأنّه يجحد القرآن ويعرض بالخلافة وينشط الفلسفة وعلوم المتقدمين بدلاً من الدين الإسلامي..
وروى الأنصاري أنّ من أسباب نكبة ابن رشد "اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة"، فيظهر من ذلك أنّ ابن رشد كان يؤثر أبا يحيى على الخليفة أخيه. ومنها أّنه كتب في كتاب الحيوان: "ورأيت الزرافة عند ملك البربر" يعني الخليفة المنصور ملك العرب لأنّ اليونان كانوا يلقبون البربر بالعرب كذلك. فلما بلغ المنصور من حساد ابن رشد، سأله عنه، فأجابه، إنني كتبت "ملك البريّن" فقرأوا ملك البربر. فأسرها المنصور في نفسه.
ومع سمو مكانة العالِم والفيلسوف تزداد شدة الأضواء المسلطة عليه وعلى سلوكه وتصرفاته، ويزداد عدد المتربصين الضحلين الذين يترقبون الفرصة للانقضاض على غريمهم، الذي لا يستطيعون السمو إلى مرتبته فيسعون للحط من مقامه، وهذا ما ينطبق على ما حلّ بفيلسوفنا الشهيد، إذ يعيد بعضهم بعض أسباب نكبته أيضاً إلى كلمة بدرت من هذا الفيلسوف من غير رويّة، وهذا ما رواه الأنصاري عن ذلك قال: "ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه. وما كدت آخذ عليه فلتة إلاّ واحدة، وهي عظمى الفلتات. وذلك حين شاع في الشرق والأندلس على ألسنة المنجمة أنّ ريحاً عاتية تهبُّ في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس. واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس منه، واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقياً لهذه الرياح. ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد استدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك وفيهم ابن رشد وهو القاضي بقرطبة يومئذٍ وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب. قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير: وكنت حاضراً فقلت في أثناء المفاوضة: إن صحّ أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد إذ لم تعلم ريح بعدها يعم هلاكها. قال، فانبرى إليّ ابن رشد ولم يتمالك أن قال "والله وجود قوم عاد ما كان حقاً فكيف سبب هلاكهم؟" فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلاّ عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"(5). هكذا حوكم في محاكمات غير متكافئة، خاصة وأنّ محاكميه لم يرتقوا إلى المستوى الفكري الذي تمتع به وبالتالي أثبت التاريخ أنّهم غير جديرين بمحاكمته. والمؤرخون يدونون تلك الأحداث كفلتة من فلتاته، ولا يتعبون أنفسهم في التفكير إن كانت فلتة أم رأياً، خاصة وأنّ الأندلس لم تهلك من تلك الرياح.
ثم إنّ قوماً ممن يناوئه بقرطبة، ويدعي معه الكفاءة في البيت والحشمة، سعوا به عند أبي يوسف (المنصور) بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص (يريد تلاخيصه الفلسفية) فوجدوا فيه بخطه حاكياً عن بعض الفلاسفة "قد ظهر أنّ الزهرة أحد الآلهة". فأوقفوا أبا يوسف على هذا. فاستدعاه بمحضر من الكبار بقرطبة، وقال له: أخطك هذا ؟ فأنكر . فقال (أبو يوسف) لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه. ثم أمر بإخراجه مهاناً (كذا).(3(
وقد روى الأنصاري: "لما قرأتْ (فلسفة ابن رشد) بالمجلس وتُدُولتْ أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها خرجتْ بما دلتْ عليه أسوأ مخرج... وأمر الخليفة طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرق من الدين وأنّه استوجب لعنة الضالين..ثم أُمر أبو الوليد (ابن رشد) بسكنى اليسانة ( وهي بلدة قريبة من قرطبة سكانها من اليهود) لقول من قال، إنّه ينسب في بني إسرائيل وأنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس.."(4(
ما كتب في العفو عن ابن رشد :
روى الأنصاري عن أبي الحسن بن قُطرال عن ابن رشد أنّه قال : " أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه".
.. بعد سفر المنصور إلى الغرب توسط لديه جماعة من أعيان أشبيلية "وشهدوا لابن رشد كما قال ابن أبي أصيبعة أنّه على غير ما نُسب إليه، فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة" يعني المنكوبين بنكبته ..
توفي ابن رشد سنة 595هـ 1198م ، ويروي محي الدين ابن عربي 560-638 هـ 1164-1240م أنّه شهد جنازة ابن رشد الذي توفي في مراكش ثم نقلت جثته إلى مسقط رأسه في قرطبة. ويقول إنّه حضر تحميل الجثة على إحدى الدواب ورأى كيف وضع التابوت على جانب ووضعت كتب ابن رشد على الجانب الآخر لأجل التوازن".(5(
من مؤلفات ابن رشد :
لا بد من التذكير بأنّ معظم أعمال ابن رشد تعرضت للحرق نتيجة الاضطهاد الذي لاقاه، ولم يبق منها إلاّ الجزء النذير، وما تم تهريبه إلى أوروبا من قبل تلامذته.
لذلك أصبحت كتب ابن رشد الفلسفية بالنص العربي نادرة أما كتبه الطبية فكثيرة ونجدها في مكاتب الاسكوريال (دير على مسافة 40 كم من مدريد) وليدن وباريس.
أما إذا طُلبت كتب ابن رشد باللاتينية أو العبرانية، فقلما تخلو منها مكتبة من المكاتب الكبرى في أوروبا. وقد قيل أنّه لم ينشر في العبرانية (بعد التوراة) كتاب بمقدار انتشار كتب ابن رشد بها. ومما هو جدير بالذكر، ويزيل شيئاً من حرقة طلاب النص العربي لهذه الكتب، أنّ في مكتبة (أوري) السويسرية ومكتبة باريس بعض كتب ابن رشد الأصلية مكتوبة بأحرف عبرانية، فإذا قرأها القارئ العبراني نطق بألفاظ عربية وإن كانت الكتابة عبرانية.
ونظراً للدور الكبير الذي لعبته أعماله الفلسفية خاصة شروحه لأرسطو في تطور الفلسفة في أوروبا، فقد طغت شهرته الفلسفية على أعماله الأخرى خاصة الطبية.
يلاحظ (سارتون) في كتابه القيم "مدخل إلى تاريخ العلم" (Satron. Introduction to the History of Science , Baltimore , t . ll . 305) أنّ شهرة ابن رشد في عالم الفلسفة كادت أن تحجب منجزاته الطبية. على أنّ ابن رشد كان يعتبر من أكبر الأطباء في عصره. فقد ألف نحو عشرين كتاباً في الطب بعضها تلخيصات لكتب جالينوس وبعضها مصنفات ذاتية وقد ترجم أكثرها إلى العبرية واللاتينية وأِشهرها كتاب (الكليات في الطب) وهو موسوعة طبية في سبع مجلدات ترجم إلى اللاتينية في سنة 1255 وطبع عدة مرات في جامعة بادوا مضافاً إليه كتاب (التيسير في المداواة والتدبير) لصديقه ابن زهير، الذي وضعه بناء على طلب ابن رشد للبحث في الأمور الجزئية ..(6(
مؤلفاته في المجال الفلسفي :
كان ابن رشد شديد الإعجاب بالمعلم الأول أرسطو، وقد عبر عن هذا الإعجاب في مقدمة كتابه الطبيعيات، حيث قال: "إنّ مؤلف هذا الكتاب هو أرسطو بن نيكوماكوس أعقل أهل اليونان وأكثرهم حكمة وواضع علوم المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة ومتممها. وقد قلت أنّه واضعها لأنّ جميع الكتب التي وضعت قبله في هذه العلوم غير جديرة بالذكر إزاء كتبه. وقلت إنّه متممها لأنّ جميع الفلاسفة الذين عاشوا بعده منذ ذلك الزمن إلى اليوم أي مدة 1500 سنة لم يستطيعوا زيادة شيء على وضعه ولا وجدوا خطأ فيه. فلا ريب في أن اجتماع هذا العلم في إنسان واحد أمر عجيب غريب يوجب تسميته ملكاً إلهياً لا بشراً. ولذلك كان القدماء يسمونه أرسطو الإلهي"، قال تعالى في كتابه "والفضل لله يؤتيه من يشاء".
ونتيجة لإعجابه الشديد بأرسطو وفلسفته، وبناء على تكليف الخليفة له كما سيرد لاحقاً، قام ابن رشد بشرح تلك الفلسفة في شروح وجيزة وأخرى طويلة فشرح كتب الخطابة، والحيوان، وما بعد الطبيعة.. وغدت تلك الشروح المصدر الرئيس للفلسفة الأوروبية عبر قرون.
ونظراً لأنّ ابن رشد لم يكن يحسن اللغة اليونانية فقد أخذ فلسفة أرسطو من الكتب المترجمة إلى العربية من قبل النساطرة والسريان واليهود في الشرق والغرب.
وبالإضافة إلى شروحه لفلسفة أرسطو ألّف في الفلسفة كتاب فصل المقال، وكتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.. بالإضافة إلى الشروح والردود على الفلاسفة المسلمين: ابن سينا ـ الفارابي ـ الغزالي نذكر منها رده على "تهافت الفلاسفة" للغزالي في "تهافت التهافت".
في فكر وفلسفة ابن رشد :
كانت مهنة الفلسفة في العالم العربي والإسلامي أمراً محفوفاً بالمخاطر، باستثناء المراحل التي وجد فيها قادة حكماء كأبي يعقوب الذي اتصف بحبه للعلماء فاستدعى ابن طفيل فيلسوف الأندلس وعالمها، لإنشاء مدارس العلم هناك، ولما كان ابن طفيل في شيخوخته فقد دعا ابن رشد لمساعدته في إنجاز هذه المهمة. هكذا فُتِحَ الباب أمام ابن رشد لخوض غمار هذا اليم، وكان من حسن الأقدار أن كلفه الأمير بترجمة كتب أرسطو.
يرى ابن رشد أنّ الفلسفة ليست مناقضة للشرع، بل يعدّ الفلاسفة، بمن فيهم الأقدمين الذي عُرِفوا قبل الإسلام، مؤمنين، ويتجلى ذلك في ذكره لوصف أرسطو بالإلهي، وله بحث خاص يبرهن فيه ضرورة البحث في الفلسفة وأن الشرع يبيحها، يقول فيه: "فإنّ الغرض من هذا القول أن نفحص من جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به؟
فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات (الأشياء الموجودة أو الكون) واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أي من جهة ما هي مصنوعات، فإنّ الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحدث على ذلك..
فأما أنّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى "فلتعتبروا يا أولي الأبصار".(7(
من الواضح أنّ ابن رشد ، كما يؤكد أغلب الباحثين في آثاره، كان من الفلاسفة الذين يقدرون دور الدين في حياة المجتمعات، ويعتقدون بأنّ العالم لن يستغني عن الأديان طالما بقيت الحياة البشرية. ومن فضائله سعيه الدؤوب للبرهان على أنّ الفلسفة والدين متوافقان، لا يلغي أحدهما الآخر. وقد أجمع الباحثون على أنّ فلسفة ابن رشد امتازت بالعقلانية والدعوة إلى اعتماد العقل في تسيير أمور الجماعة دون التعرض للدين وأصوله وقيمه، لأن بين العقل والدين اتصالاً وثيقاً بإمكانه، إذا أحسن استغلاله، أن يساعد على قيام مجتمع تسوده العدالة والأخوة والمساواة والحرية. وعمله كقاضٍ أثر على أسلوبه في البحث الفلسفي، فهو يحلل الأمور ويبحث وينقب ويدافع، ولا يعتمد رأياً لا تدعمه قوة الحجة والبرهان..
هكذا وقف ابن رشد مناصراً للفلسفة والخوض فيها. إلاّ أنّ هذا الرأي وجد معارضة من فقهاء كان في طليعتهم الإمام الغزالي صاحب كتاب "تهافت الفلاسفة". وقد وضع الإمام الغزالي هذا الكتاب لنقد الفلسفة والفلاسفة الذين نظروا فيها كابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم، لأنّ الفلسفة تبحث في قضايا تمس المقدس. وكان لكتاب الغزالي هذا تأثيرٌ كبير على الباحثين في الفلسفة، فكبَّل أياديهم... وأضعف الفلسفة العربية وأحبط العاملين فيها فذبلت وكادت جذوتها تخبو، إلى أن تنبه الفلاسفة العرب في المغرب (الأندلس ومراكش) وأخذ ابن طفيل وابن باجة وابن رشد زمام المبادرة في نصرة الفلسفة والعقل، فعادت شعلتها تتوهج على أيديهم.
ردَّ ابن رشد على الغزالي في كتابه فصل المقال بقوله: ".. فإن قلت وإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر الفارابي وابن سينا ؟
فإنّ أبا حامد قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت في ثلاث مسائل :
1 ـ في القول بقدم العالم .
2 ـ وبأنّه تعالى لا يعلم الجزئيات تعالى عن ذلك.
3 ـ في تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد.
قلنا الظاهر من قوله في ذلك إنّه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعاً إذ قد صرّح في كتابه "التفرقة " (التفرقة بين الإسلام والزندقة) إنّ التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.
وقد تبين من قولنا إنّه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل لما روى عن كثير من السلف الأول فضلاً عن غيرهم إن ها هنا تأويلات لا يجب أن يفصح بها إلاّ لمن هو أهل التأويل وهم الراسخون في العلم.."(8(
كما رد على الغزالي بكتابه المشهور "تهافت التهافت" الذي أخذ فيه على الغزالي إنكاره الأسباب الفاعلة المؤدية إلى النتائج المحسوسة: "أما إنكار الأسباب الفاعلة التي تُشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي. والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه وإما منقاد لشبهة سوفسطائية عرضت له في ذلك. ومن ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أنّ كل فعل لا بدّ له من فاعل. وأما أنّ هذه الأسباب مكتفية بنفسها في الأفعال الصادرة عنها أو بما تتم أفعالها بسبب من خارج إما مفارق أو غير مفارق فأمر ليس معروفاً بنفسه وهو مما يحتاج إلى بحث وفحص كثير".
ويظهر الاتجاه العقلاني في فلسفة ابن رشد في مواجهته لمواقف المتكلمين..
يمكن وضع علم الكلام في الدين الإسلامي واللاهوت في الدين المسيحي بمنزلة متشابهة.
وضع المتكلمون، أي علماء الكلام في الدين الإسلامي (الذين يدافعون عن الإسلام بموجب شريعته)، وضعوا تعاليم ومناهج خاصة بهم. وليس من الدقة وصف تعاليمهم بالفلسفة لأنّها تتكون من مسائل دينية محضة. إلاّ أنّه ، وبما أنّ البحث في عالم الغيب وما وراء الطبيعة يندرج في إطار الفلسفة، يمكن مقاربة ما وضعوه بالفلسفة. ومن المعلوم أنّ كلمة فلسفة اليونانية الأصل مشتقة من كلمتين فيلو (المحبة ) وسوفيا (الحكمة) فالفلسفة معناها (محبة الحكمة(.
تبين دراسة فلسفة المتكلمين أنّها مبنية على أمرين. الأول : خلق (حدوث) المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني: وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له. وينكر المتكلمون دور الأسباب، لأنّ الخالق نفسه هو السبب وليس من سبب سواه. فإذا حدث حادث في الكون فلا مبرر للسؤال عن السبب، فليس في الكون أسباب خارجة عن الخالق وإلاّ حدث نقص في كماله. هكذا ينفون الروابط بين حوادث الكون التي تنتج بعضها عن بعض لأنّ هذه الحوادث تحدث بأمر الخالق وحده.
وكما جاء في كتاب رينان "ابن رشد والرشدية" والذي نشر فرح انطون فصولاً منه في كتابه "ابن رشد وفلسفته" فإنّ الرشدية تناقض فلسفة المتكلمين، إذ أنّ: ".. أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي أرسطو. فيقول إنّ كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئاً لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها. ولكن ما هي هذه المادة؟ هي شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف. بل هي ضرب من الافتراض لا بدّ منه ولا غنى عنه وبناء عليه يكون كل جسم أبدياً بسبب مادته أي إنه لا يتلاشى أبداً. "(فرح أنطون . ابن رشد وفلسفته ـ دار الطليعة بيروت 1981 . ص60). وفي هذا المجال يمكننا القول أنّه كما سبق ابن خلدون لقرون علماء الاجتماع الأوروبيين في تحديده العلاقة بين الوجود العمراني ووعي الناس، (علاقة الوعي بالوجود الموضوعي ـ عند ماركس)، كذلك سبق ابن رشد لقرونٍ أيضاً فلاسفة أوروبا في تعريفه المادة كمفهوم فلسفي (ضرب من الافتراض كما يقول ابن رشد)، والمادة حسب تعريف لينين في كتابه:المادية والمذهب النقدي التجريبي، هي (مفهوم فلسفي للتعبير عن الواقع الموضوعي(..!!
كما يرى ابن رشد أنّ كل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل لا بدّ له من هذا الانتقال وإلاّ حدث فراغ ووقوف في الكون وعلى هذا تكون الحركة مستمرة في العالم ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط.. يمكن اعتبار هذه المقولات أساساً أصيلاً للمنهج الديالكتيكي استفاد منها الفلاسفة الأوروبيون في تطوير هذا المنهج حتى وصل إلى أرفع درجاته عند هيغل في القرن التاسع عشر.
يمكن اعتبار الركنين التاليين من أهم أسس فلسفة ابن رشد: أولاً: الاعتقاد بأنّ المادة قديمة وليست محدثة، أي أزلية، ثانياً: مسألة العقول ووحدانيتها.
تُعد مسألة أزلية المادة من أهم المسائل العويصة التي شغلت المفكرين على مر العصور.. والاعتقاد بقدم المادة يعني أنّ الكون خلق من مادة كانت موجودة بذاتها منذ الأزل، وإلاّ يكون العالم قد صنع من العدم، وهذا قول يناقض العقل والعلم، ولا يقبلانه. ولذلك افترض ابن رشد وجود هذه المادة افتراضاً، إذ ليس بالإمكان إقامة الدليل القطعي على وجودها أو عدمه. ولما كان ابن رشد يبني فلسفته على افتراض أزلية المادة ويعلل الخلق بها، كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة وهي قولهم له إنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك فإنّ ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مرت على الفلسفة عشرات القرون ومايزال الفلاسفة والعلماء العقلانيون يبنون على هذا الافتراض لتفسير خلق الكون لأنّ هذا الافتراض أقرب إلى العقل من القول بأنّ الكون خُلق من العدم.
رأي ابن رشد في مسألة تدبير الكون
يشبه ابن رشد آلية تدبير الكون بحكومة المدينة. فمثلما تتوزع شؤون المدينة وتتجه في المحصلة إلى مركز واحد يشغله الحاكم العام الذي يُعد مصدراً لكل شؤون الحكم، من دون أن يتدخل في كل شاردة وواردة، كذلك الخالق في الكون فإنّه مركز ومصدر الفعل فيه ويدبره من دون أن يتدخل مباشرة في الجزئيات. بالتالي لا وجود لأي "اتصال" مباشر بين الخالق والكون، بل يتم هذا الاتصال من خلال العقل الأول والكلي. وهذا العقل الأول هو مصدر قوة الكواكب. وعلى ذلك فالسماء في رأي ابن رشد مؤلفة من عدة دوائر.. والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو قلب ومركز هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها كما أنّ للإنسان عقلاً يعرف به طريقه. وهذه العقول (القوى) الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضاً محكومة بعضها ببعض إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه. وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناء عليه فالعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه الحركات على علم بكل ما يحدث في العالم.
وبما أنّ ابن رشد يرى أنّ اتصال الله بالكون يتم عن طريق العقل الأول، فهو يسلّم يقينياً بأنّ كل شيء في الكون إنما يعود إلى الله الخالق الكامل، ولكن علاقة هذه الأشياء بمجملها ـ أي الكون ـ بالله تتم عن طريق الكليات لأنّ الله مصدر ونقطة ارتكاز لكل الموجودات التي يتحكم بها عن طريق القوى العقلية. فالله منزه عن الاتصال بالكون المتغير اتصالاً مباشراً. فلو كان الله يحرك العالم مباشرة في كل جزئياته لكان الشر من خلق الله وإرادته. والحال إنّ الخير وحده هو من خلق الله، والخير هو السنن الكلية التي وضعها الله للكون، وأما الشر فهو مخالفة المادة والإنسان لتلك السنن. من كل ما تقدم يتبين أنّ ابن رشد كان، من ناحية مؤمناً بالله منزهاً إيّاه..، ومن ناحية أخرى كان سباقاً للفيلسوف الألماني الكبير فريدريك هيغل في استخدامه لمفهوم الكليات والفكرة المطلقة..
ويقود رأي ابن رشد في أنّ الله يعلم أنواع الأشياء في العالم لا مفرداتها، ضمناً إلى مسألة الاختيار التي هي أهم مسائل الفلسفة.
رأي ابن رشد في الاتصال، ونظرية المعرفة الحديثة :
عند معالجة مسألة علاقة الإنسان بالخالق يظهر تأثر ابن رشد بما جاء في كتاب "النفس" للمعلم الأول الذي يؤكد أنّ في الكون عقلاً فاعلاً وعقلاً منفعلاً. فالعقل الفاعل هو عقل كلي (عام) مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة. وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. ويمر طريق العلم والمعرفة عبر اتحاد هذين العقلين. وأول نتيجة لهذا الاتحاد تدعى العقل المكتسب... أما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلاّ بطريق "العلم". يتصل الإنسان بالخالق بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنّه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الحقيقة الأبدية. ومتى اتصل الإنسان بالله صار عارفاً بكل شيء في الكون ولم يفته شيء.
أما المتصوفة فيرون بأنّ الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد ولا حاجة للعلم في هذا المجال.
يمكن تقسيم مسألة الاتصال عند ابن رشد ـ التي يمكن اعتبارها أحد أسس وجذور ومصادر نظرية المعرفة ـ إلى مسألتين؛ الأولى: اتصال الإنسان بالعقل الفاعل عن طريق الفكر. والثانية: اتصاله بطريق الحواس أو المعرفة عن طريق الحواس.
تقود مسألة الاتصال (المعرفة) عن طريق الحواس إلى سؤال حول قدرة الإنسان على معرفة العقول والأجرام المفارقة له أي البعيدة في أقاصي الفضاء السماوي (ويقصد البعض أحياناً بالعقل المفارق الملائكة والأرواح من الملأ الأعلى) وهو ما سماه ابن رشد "اتصال الإنسان بالعقل المفارق"، وقد كتب كتاباً تحت هذا العنوان. ومن رأيه أنّ العقل المنفعل أي الإنسان يستطيع ذلك لسببين. الأول أنّ العقول والأجرام البعيدة لم يوجدها الباري إلاّ واجداً عقولاً تدركها وتعرفها إذ من المحال أن يخلق الله معقولاً دون أن يوجد عقلاً يعقله. والسبب الثاني أنّ القول بأنّ العقل لا يعقل الأجرام المفارقة له هو قول يحط من قدر العقل البشري ويجعله أدنى من الحواس. لأنّ للحواس محسوسات تحس بها وما كان للحواس يجب أن يكون للعقل لأنّه أرقى منها. كل ذلك يدل على أنّ ابن رشد وضع العقل في مكانة مرموقة.
ففي مسألة اتصال الإنسان بالله، يعتبر ابن رشد أنّ العلم هو سبب الاتصال بين المخلوق والخالق. وغرض الحياة إنما هو تغليب فكرة العقل على الحواس والأهواء والشهوات. فكلما حقق الإنسان اقترابه من العقل العام (الكلي) كلما حقق السعادة والمعرفة الكاملة، أياً كان مذهبه ودينه.
يمكن اعتبار آراء ومقولات ابن رشد التي تبحث في مسائل البحث عن الحقيقة خطوة هامة على طريق تأسيس نظرية المعرفة التي توصل إليها فلاسفة القرن التاسع عشر في أوروبا.
رأي ابن رشد في مسألة حشر الأجساد والخلود :
من صفات العقل الفاعل العام ـ حسب رأي ابن رشد ـ أنه مستقل ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء. أما العقل الخاص المنفعل فيتصف بالفناء مع جسم الإنسان.. بالتالي ففي مسألة الخلود يعتبر ابن رشد أنّ العقل الفاعل العام (الكلي) هو وحده الخالد، بمعنى أنّ الإنسانية هي الخالدة، أما العقل المنفعل الفردي فإنه يفنى مع الجسم، وبالتالي فليس هناك حياة ثانية للأفراد بعد الموت. وهذا ما يؤدي إلى رفض ابن رشد مبدأ حشر الأجساد بعد الموت في اليوم الأخير.(9(
مصير الفلسفة الرشدية في البلاد العربية
يمكن اعتبار موت ابن رشد خاتمة مرحلةٍ مشرقةٍ ازدهرت فيها الفلسفة العقلانية والنزعة العلمية، لقد كان إيذاناً ببدء مرحلة أخرى سادت فيها الحركة الصوفية والنزعة الدينية التقليدية.
يمكن ملاحظة مدى الإهمال الذي أصاب ابن رشد وفلسفته في بلاده بعد موته، بالرجوع إلى ما كتبه الفيلسوف والمتصوف الأندلسي ابن سبعين 614-669هـ/1217-1269 م الذي عاش في عهد الموحدين ونفي من البلاد ومات منتحراً في مكة والذي ألف كتاباً في (أسرار الحكمة المشرقية) وآخر في الموسيقى وبعض الرسائل المتنوعة. وقد جاء في إحدى هذه الرسائل قوله: "أما ابن رشد فمفتون بأرسطو، معظِّم له ويكاد أن يقلده في المحسوسات والمعقولات. وأعظم تآليفه من كلام أرسطو، إما ينقله أو يلخصه. وهو قصير الباع، قليل المعرفة، بليد التصور. غير أنّه قليل الفضول ومنصف، وعالم بعجزه، و لا يعول عليه في اجتهاده لأنّه مقلد لأرسطو".
لم يشتهر أحد من تلامذة ابن رشد في الفلسفة، ويرجع الباحثون ذلك لسببين: فإما أنهم خافوا أن يقعوا في ما وقع فيه أستاذهم في حياتهم، وإما أنهم كانوا غير مستعدين لهذه الصناعة الخطيرة التي تقتضي استعداداً فطرياً.
ومن الغريب أن نرى ابن خلدون من جهة يتبع مناهج البحث العلمي ويؤمن بقدرة العقل البشري على إدراك الحقائق المتصلة بالحس والتجربة ويسعى إلى الكشف عن قوانين الظواهر الطبيعية وتعليل الحوادث التاريخية والاجتماعية بطريقة عقلانية بينما هو من جهة أخرى يدعو إلى إبطال الفلسفة ويستنكر مزاعم الفلاسفة بأنّهم يستطيعون إدراك الموجودات على ما هي عليه بالبراهين العقلية. فكتب فصلاً خاصاً في إبطال الفلسفة وفساد منتجها.(10(
إلاّ أنّه بعد وفاة ابن رشد كان الفاعل الكبير في إذاعة فلسفته عالم يهودي كبير يسميه علماء اليهود "موسى الثاني"، وهو معروف عند العرب بابن عبيد الله، كما عرفه اليهود بموسى ميمون1135-1204. كان لابن ميمون تأثير كبير في تشجيع حركة ترجمة مؤلفات ابن رشد، التي بدأها اليهود الذين هاجروا من الأندلس إلى جنوبي فرنسا وإيطاليا في أواخر القرن الثاني عشر. نشأ ابن ميمون في الأندلس ثم هاجر إلى مصر حيث عين طبيباً خاصاً بنور الدين بن صلاح الدين الأيوبي، وكان معجباً بمؤلفات ابن رشد وظل في رسائله يدعو الكتاب اليهود إلى دراستها وترجمتها..
انتشار الفلسفة الرشدية في أوروبا :
قبل انتشار فلسفة ابن رشد في أوروبا كانت الفلسفة فيها عبارة عن تعاليم لاهوتية مجموعة من عدة كتب مختلفة مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية. فلما دخلت فلسفة العرب إلى أوروبا حصلت أوروبا على فلسفة أرسطو في مجمل دائرة المعارف القديمة.
وعلى العكس من العالم الإسلامي أسرعت البلاد الأوروبية منذ أوائل القرن الثالث الميلادي إلى اقتباس فلسفة ابن رشد، فاندفع الكثيرون إلى ترجمة مؤلفاته، وانصرف آخرون إلى دراستها والتعليق عليها سواء كان ذلك لمهاجمتها أو الدفاع عنها.
كان الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوروبا إلى اللغة اللاتينية يعود لرئيس أساقفة طليطلة مونسنيور دريموند .
الإمبراطور فريدريك الثاني وانتشار كتب ابن رشد :
من المعروف أنّ الإمبراطور فريدريك الثاني /1194-1250/م، الذي نشأ في جزيرة صقلية التي ورث ملكها عن والدته، كان على خلاف شديد مع الكنيسة وكان يجاهر بآراء مخالفة العقائد الدينية ..
استدعى فريدريك الثاني العالم اليهودي يعقوب آناتولي من مرسيليا لتدريس اللغة العبرية في جامعة نابولي التي أسسها في سنة 1224 مستقلة عن الكنيسة. وهناك قام آناتولي بترجمة شروح ابن رشد الكبيرة . ثم استدعى فريدريك عاملاً كبيراً آخر هو ميخائيل سكوت الذي كان ترجم سنة 1217م كتاب الأفلاك للبطروجي في طليطلة، فعهد إليه بأن ينقل من العربية إلى اللاتينية كتب أرسطو وشروح ابن رشد عليها.. (11)
الاكليريوس وفلسفة ابن رشد :
لما نفذت فلسفة العرب إلى أوروبا وانتشرت بين أيدي الناس في الكليات والمدارس والمكاتب والجمعيات وذلك قبل بلوغ فلسفة ابن رشد فيها أوج النفوذ والسلطان اشتغل الاكليروس الأوروبي بمقاومتها لأنّ أصولها مخالفة لقواعد الأديان الموجودة..
الرشدية والقديس توما
كان القديس توما أعظم فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة. وكان أكبر خصوم فلسفة ابن رشد..
ومهما كان الأمر فقد درس توما الأكيوني مؤلفات ابن رشد واتبع طريقته في تفسير كتب أرسطو وتأثر بتعاليمه، فكان ، كما قال رينان "أكبر تلميذ وأخطر خصم لابن رشد في وقت واحد".(12) لقد سلك توما الأكيوني نهج ابن رشد في محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين واقتبس الكثير من آرائه إلاّ أنّه خالفه في بعض القضايا الهامة مثل نظرية وحدة العقل الإنساني والقول بأزلية العالم واستحالة الخلق من العدم. وعلى الرغم من أنّ توما الأكيوني قد هاجم ابن رشد وانتقد آراءه إلاّ أنّه " ظل يحترمه ويعتبره حكيماً "وثنياً" جديراً بالتقدير والرحمة لا مجدفاً يستحق اللعنة".(13(
المدافعون عن ابن رشد في أوروبا بعد هجوم الاكليريوس وتوما الاكيوني عليه:
احتدم الجدال في أوروبا وعلى الأخص في جامعة باريس بين خصوم ابن رشد بزعامة توما الأكيوني من جهة وبين مؤيديه جهة أخرى. و فيما كان أتباع الكنيسة يهاجمون فلسفة ابن رشد ويتهمونه بالإلحاد والزندقة قام أنصاره الكثيرون يدافعون عنه ويؤيدون تعاليمه. نذكر منهم:
الرهبان الفرنسيسكان
يبين رينان أنّ نصراء المبادئ العربية تلك كانوا من رهبان الفرنسيسكان ومن كلية باريس الكبرى .
ونذكر كذلك من أنصار ابن رشد الفيلسوف الإنكليزي روجر بيكون /1214-1292/ م الذي يعد من أشهر العلماء في القرون الوسطى، وقد كتب روجر بيكون مدافعاً عن ابن رشد يقول: "بعد ابن سينا قام ابن رشد وهو رجل قوي الحجة أصيل الرأي فهذب تعاليم الذين تقدموه، وإن كانت تعاليمه نفسها محتاجة إلى التهذيب والتكميل في بعض المواضع".
وقد أُبعد روجر بيكون من جامعة أكسفورد سنة 1257م بتهمة الإلحاد وعاش في باريس مدة من الزمن تحت المراقبة. وقد ورد اسمه مع سيجر دو برابانت بين الأساتذة الذين اتهمهم أسقف باريس بتدريس تعاليم ابن رشد الإلحادية.(14(
واشتهرت رسالة سيجر دو برابانت التي خصصها للرد على خصوم ابن رشد، وكانت تحت عنوان: "ضد ذنيك الرجلين المشهورين في الفلسفة : ألبرت وتوما "والتي جاء فيها أنّهما يفسران الفيلسوف (ويعني أرسطو) تفسيراً خاطئاً، وإنّ ابن رشد على العكس هو الذي جاء بالتفسير الصحيح.(15(
وقد تجلى هذا الأثر في باريس بعد ذلك بشكل واضح. فإنّ مدرسة السوربون فيها كانت مدرسة لاهوتية تعلم تعاليم القديس توما. ولكن كلية باريس كانت على خلاف ذلك. فإنّ كثيرين من أساتذة الفنون فيها كانوا من أنصار مذهب ابن رشد. وقد وجد في هذا العصر من آثار هذه الكلية تسعة دفاتر محتوية على تعاليم هذا الفيلسوف كانت تدرس في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
مكانة الفلسفة الرشدية في كلية بادوا :
صار ابن رشد عبارة عن راية تتحارب حولها شعوب وأمم مختلفة في ايطاليا وفرنسا وأسبانيا. وكان له سمعتان: سمعة الفضل والنزاهة، وسمعة الكفر وبغض الدين..
ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس "تعليم فلسفة ارسطو وشرح ابن رشد عليها لأنّه ثبت أنّ هذا الشرح صحيح مفيد".
وكان بدء انتصار فلسفة ابن رشد في كلية بادوا المشهورة بإيطاليا.. ونشأ تحت راية فلسفة العرب في ذلك الزمان البعيد جيل جديد كان له رأيه في الأديان ويدعي العصمة ..
ولكن هذه العظمة لم تدم وقتاً طويلاً. فقد اهتمت إيطاليا في آخر القرن الخامس عشر اهتماماً شديداً بمسالة خلود النفس. فقام يومئذ بومبونا المشهور وأحدث خرقاً في تعليم ابن رشد. ذلك أنّ أنصار ابن رشد كانوا يقولون أنّ النفس بعد الموت تعود إلى الله وتفنى فيه أي تفقد شخصيتها. أما بومبونا الذي تقدم ذكره فإنّه أثبت من كتب اسكندر دوفروديزياس (الاسكندر الافروديسي الفيلسوف اليوناني الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد والذي كان ابن رشد يعتمد أحياناً عليه) أنّ الإنسان يفنى بعد الموت، وأنّه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي الذي على الأرض. فانقسم يومئذ المشتغلون بالمبادئ قسمين قسم يعتمد على ابن رشد، وقسم يعتمد على اسكندر دفروديزياس. وعهد البابا إلى العالم نيفوس بالرد على بومبونا. وكان نيفوس من أنصار ابن رشد. وفي ذلك منتهى العجب لأنّ مبادئ ابن رشد صارت يومئذ بمثابة النصيرة للكنيسة على العدو الجديد الذي كان ينكر جميع أصول الدين، بعد أن كانت عدوة للكنيسة. هذا هو مصير المبادئ في كل زمان ومكان فإنّها تختلف باختلاف العقول التي تتصرف بها والأحوال التي تنشأ فيها.
يتضح من هذا الاستعراض التاريخي أنّ لابن رشد تأثيراً كبيراً في تطور الفكر الأوروبي. ويمكن القول إنّ ابن رشد بدفاعه عن الفلسفة ودعوته إلى الاعتماد على العقل والتجربة قد مهد السبيل بصورة غير مباشرة، إلى الثورة العلمية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر..
الرشدية بعد عودة الفلسفة اليونانية في أوروبا
كان الأساتذة في أوروبا يدرسون فلسفة أرسطو بموجب تلاخيص ابن رشد وابن سينا. فلما قدم العهد بهذه التلاخيص صار الأساتذة يضعون شروحاً عليها من عندهم ويتلونها على الطلبة. فصارت فلسفة أرسطو تصل إلى الطلبة بعد مرورها في التلاخيص الرشدية والتلاخيص اللاتينية. فكانت تخسر شيئاً كثيراً من صفتها الارسطوطاليسة. ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى النص اليوناني الحقيقي عاجلاً أم آجلاً.
وفي سنة 1487م بدأ الأستاذ نقولا ليونيكوس توموس يلقي لأول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية في كلية بادوا..
وخاف الكثيرون من الأوروبيين عاقبة التهور في مبادئ ابن رشد المادية وباتوا يحاربون هذه المبادئ في أوروبا وانضموا إلى المذهب البروتستنتي.. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز اليونانيين فلم تأت سنة 1631 وهي السنة التي توفي فيها قيصر كريمونيني حتى زالت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة ودخلت في حيز التاريخ القديم.
الرشدية والفلسفة الحديثة
تحملت فلسفة ابن رشد هجمات أنصار توما الاكيوني واللاهوتيين ومجمعي لاتران وترانته واضطهاد ديوان التفتيش.. ولكنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة.
ويعد فرنسيس بيكون (1561-1626م ) أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان..
ابن رشد في القرنين التاسع عشر والعشرين :
في سنة 1852 أقدم العلامة الفرنسي المشهور ارنست رينان على نشر كتابه عن (ابن رشد والرشدية) الذي أثار ضجة كبيرة في المحافل العلمية وأعيد طبعه مرات عديدة.
أما المستشرق الألماني جوزيف موللر من جامعة ميونيخ الذي نشر في السنة نفسها كتابي "فصل المقال بين الحكمة والشريعة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، ثم ترجمها إلى الألمانية في سنة 1875 فقد ذهب إلى أنّ ابن رشد كان مؤمناً وحريصاً على التوفيق بين الفلسفة والدين..(16(
بعد انتشار كتاب رينان وطبع كتاب ( تهافت التهافت) لابن رشد (القاهرة سنة 1884 و1901) قام فرح أنطون بنشر سلسلة مقالات عن ابن رشد في مجلته (الجامعة) بالاسكندرية سنة 1903م ثم جمعها مع ردود الشيخ محمد عبده ونشرها في كتاب بعنوان (ابن رشد وفلسفته). ويبدو واضحاً أنّ (فرح أنطون) قد تأثر بآراء رينان فسعى مثله إلى إظهار النواحي المادية والنزعة العقلانية وروح التسامح لدى ابن رشد.
في القرن العشرين تابع المستشرقون اهتمامهم بنشر مؤلفات ابن رشد وتحقيقها وبدراسة فلسفته وتقييمها. وفي مقدمة هؤلاء الباحثين يأتي (لئون غوتييه) الذي كان أستاذ تاريخ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب بالجزائر، فترجم كتاب "فصل المقال" إلى الفرنسية وخص أطروحته في جامعة باريس سنة 1909 بمسألة "نظرية ابن رشد حول علاقات الدين بالفلسفة"، ثم أصدر في سنة 1948 ، ضمن سلسلة الفلاسفة الكبار كتابه "ابن رشد"، الذي استقصى فيه آراء الفيلسوف الدينية والعلمية والفلسفية. وقد ذهب إلى أنّ نظرية ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة تمتاز بالأصالة والابتكار وأنّها استطاعت لأول مرة في تاريخ الفكر البشري أن تشيد على أساس عقلاني مذهباً فلسفياً كاملاً، نظرياً وعملياً في وقت واحد. انظر: (Leon Cautier ,Iben Rochd Paris 1948)
بدل الخاتمة:
ـ إنّ تسليط الضوء على فلسفة ابن رشد لا يعني الموافقة على كل كلمة جاءت فيها، فالرشدية ذاتها ومنجزات العلم والفلسفة تؤسس للنظرة النقدية للمواضيع المطروقة، ومن أكثر الأمور التي لاقت انتقاداً لدى ابن رشد ما عرف بدعوته لمنهج الحقيقتين (حقيقة للعامة، وأخرى للنخبة(..
ـ عند العودة إلى كثير من الكتب والمراجع التي تبحث في تاريخ الفلسفة نجد تجاهلاً للفلسفة العربية، بل وذهب البعض إلى البحث فيما سمي العقل العربي والاستنتاج وكأن العقل العربي لا ينتج فلسفة.. في الوقت الذي يقر فيه الباحثون بالدور الكبير للفلسفة الرشدية وفلسفة ابن سينا والفارابي في تكوين الفلسفة الأوروبية الحديثة.. ما يؤكد أنّ مسألة تطور الفلسفة لم تكن غريبة عن العقل العربي والحضارة العربية.
ـ يعد ابن رشد من أعظم فلاسفة عصره، ويعود لفلسفته وأعماله المختلفة وخاصة شروحه لأرسطو دور كبير في نشوء الفلسفة في أوروبا، وضمت آراؤه مفاهيم فلسفية توصل إليها فلاسفة أوروبيون بعده بقرون، كتعريفه للمادة، وجهوده في التأسيس لنظرية المعرفة، وبحثه في العديد من المقولات الفلسفية خاصة في مسألة حركة المادة وأثرها على الخلق، وغيرها من المقولات والمفاهيم التي تعد من الأسس الهامة في المنهج الجدلي الذي يدين إليه تطور الفلسفة في العصر الحديث. وما يهمنا ليس نقل كلامه وحفظه غيباً وتقليده، بل التعرف على منهجه في التفكير والبحث والاستفادة منه.. مع التأكيد على أنّ الفلسفة لم تكن غريبة عن الفكر العربي الإسلامي. والحضارة العربية من أكثر الحضارات انفتاحاً على العالم والحضارات الأخرى أخذت منها وأعطتها.. وستبقى تعطي وتأخذ ، وتتفاعل مع جميع الحضارات، لأنّ في ذلك سر التطور والحياة.
وفي الختام لا بد من الرد على من شمت بابن رشد إبان نكبته، ومنهم الحاج أبو الحسين بن جبير الذي قال:
الآن قد أيقن ابن رشد أنّ تواليفــه توالفْ
يا ظالماً نفسهُ تأمَّــلْ هل تجد اليوم من توالفْ
لنقول: أجل يا بن جبير إنّ ابن رشد سيبقى يجد من يوالف بعد قرون من وفاته..
الهوامش:
(1) ومن الفكاهات الجديرة بالذكر التعريف المتعدد الذي أدخله كتاب الإفرنج في اسم "ابن رشد" فهم يسمونه "أفرَويس" لأنّ ابن تلفظ باللغة الإسبانية "افن" ثم أدغمت النون بالراء وبدلت الشين والدال فصارت "أفرَويس" . وكأن هؤلاء الكتاب لم يكتفوا بهذا التصرف على ما يظهر فجعلوا للفيلسوف أسماء أخرى منها الأسماء التالية : ابن روسيدين. فيليوس روزاديس ( فيليوس معناها ابن ) بن ركسيد . ابن رساد . ابن روا . افنرويسد . افنرير . ادفيرويرز . بنرواست . أما ابو الوليد ( كنيته) فجعلوها : أبو الوكيل . أبوليت . الوليدوس . أبلولت "أبولويز" .. ( انظر فرح أنطون ـ ابن رشد وفلسفته ـ دار الطليعة بيروت ـ 1981 ص56 )
(2) فصل المقال وتقرير بين الشريعة والحكمة من الاتصال ـ ابن رشد ـ تحقيق : عبد المجيد همو ـ دار معد ـ دمشق . ص 9
(3) لما نفذ في ابن رشد وتلامذته سهم حسادهم أخذ شعراء هذا الحزب يترنمون بذكر نكبتهم فمن ذلك ما قاله الحاج أو الحسين بن جبير : ( ص 223 (
الآن قد أيقن ابن رشد أنّ تواليفــه توالفْ
يا ظالماً نفسهُ تأمَّــلْ هل تجد اليوم من توالفْ
.. الخ القصيدة . وقال الحاج بن أبي الحسين بن جبير :
لم تلزم الرشد يا بن رشد لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء ما هكذا كان فيه جـدك
انظر ـ فرح أنطون ـ ابن رشد وفلسفته ـ دار الطليعة بيروت ـ 1981 ص45
(4) نفس المصدر ص46 . من المنشور الذي نشره الخليفة في الأندلس والمغرب لمنع الفلسفة ( ص 47) :
".. قد كان في سالف الدهر قوم ( يقصد فلاسفة الأقدمين خصوصاً اليونان ) خاضوا في بحور الأوهام . وأقرّ لهم عوامهم بشغوف عليهم في الإفهام . حيث لا داعيَ يدعو إلى الحي القيوم . ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم . فخلَّدوا في العالم صحفاً ما لها من خلاق . مسودّة المعاني والأوراق . بعدها من الشريعة بعد المشرقين . وتباينها تباين الثقيلين . يوهمون أنّ العقل ميزانها . والحق برهانها . وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً ..
.. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .. والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم . إنّه منعم كريم ."
(5) كامل عياد ـ تأثير ابن رشد على مر العصور ـ مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ـ دمشق 1979
(6) نفس المصدر .
(7) فصل المقال وتقرير بين الشريعة والحكمة من الاتصال ـ ابن رشد ـ تحقيق : عبد المجيد همو ـ دار معد ـ دمشق . ص 16
(8) نفس المصدر ص37
(9) روى جمال الدين مؤلف كتاب تاريخ الفلاسفة عن ابن يهوذا ما يلي : " كنت صديقاً حميماً لابن يهوذا . ففي ذات يوم قلت له إذا كان حقاً أنّ النفس تحيي بعد مفارقة الجسد وتبقى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية فعدني وعداً صادقاً أنك إذا توفيت قبلي تأتي وتخبرني بما هنالك لأعدك بأنني إذا مت قبلك أفعل أيضاً ذلك . .. توفي ومرت سنوات دون أن يظهر لي . ولكنني ذات ليلة رأيته في الحلم .. فأجابني : " إنّ العام عاد إلى العام والخاص دخل في الخاص " ( فرح أنطون . ابن رشد والرشدية . دار الطليعة . بيروت . ص 76)
(10) انظر مقدمة ابن خلدون ـ دار القلم ـ بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الرابعة /1981 ص514
(11) كامل عياد ـ تأثير ابن رشد على مر العصور ـ مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ـ دمشق 1979
(16) B .Russel ,A History of Western Philosophy new York 1945 p.453
(12) ارنست رينان ، ابن رشد والرشدية ، القاهرة 1957 ص248
(13) المصدر نفسه ص257
(14) كامل عياد ـ تأثير ابن رشد على مر العصور ـ مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ـ دمشق 1979
(20) De Wulf , History OF Medieual Philophy t.ll.London 1925 p.103
(15) فرح أنطون ـ ابن رشد وفلسفته ـ دار الطليعة بيروت ـ 1981 ص92
(16) كامل عياد ـ تأثير ابن رشد على مر العصور ـ مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ـ دمشق 1979